كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإذا لم يكن بد من أن نسمي حركة الإسلام الجهادية حركة دفاعية، فلابد أن نغير مفهوم كلمة دفاع.
ونعتبره دفاعًا عن الإنسان ذاته، ضد جميع العوامل التي تقيد حريته وتعوق تحرره.. هذه العوامل التي تتمثل في المعتقدات والتصورات؛ كما تتمثل في الأنظمة السياسية، القائمة على الحواجز الاقتصادية والطبقية والعنصرية، التي كانت سائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام؛ والتي ما تزال أشكال منها سائدة في الجاهلية الحاضرة في هذا الزمان!
وبهذا التوسع في مفهوم كلمة الدفاع نستطيع أن نواجه حقيقة بواعث الانطلاق الإسلامي في الأرض بالجهاد؛ ونواجه طبيعة الإسلام ذاتها، وهي أنه إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، وتقرير ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين؛ وتحطيم مملكة الهوى البشري في الأرض، وإقامة مملكة الشريعة الإلهية في عالم الإنسان..
أما محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية؛ ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على الوطن الإسلامي! وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب- فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض. كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر؛ وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي!
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان- رضي الله عنهم- قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد، وأمام الدعوة تلك العقبات المادية- من أنظمة الدولة السياسية؛ وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، والاقتصادية الناشئة من الاعتبارات العنصرية والطبقية، والتي تحميها القوة المادية للدولة كذلك؟!
إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير الإنسان نوع الإنسان في الأرض كل الأرض. ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان!.. إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات.. فهنا {لا إكراه في الدين}.. أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلابد من إزالتها أولًا بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!
إن الجهاد ضرورة للدعوة. إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانًا جادًا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه؛ ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري السلبي! سواء كان الوطن الإسلامي- وبالتعبير الإسلامي الصحيح: دار الإسلام- آمنا أم مهددًا من جيرانه. فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد تلك السلم الرخيصة؛ وهي مجرد أن يأمن على الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية. إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله. أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله؛ والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله. والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام- بأمر من الله- لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها.. ولقد انتهت هذه المراحل كما يقول الإمام ابن القيم: فاستقر أمر الكفار معه- بعد نزول براءة- على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.. ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام.. فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه.. فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن وهم أهل الذمة كما يفهم من الجملة السابقة وخائف محارب. وهذه هي المواقف المنطقية مع طبيعة هذا الدين وأهدافه. لا كما يفهم المهزومون أمام الواقع الحاضر، وأمام هجوم المستشرقين الماكر!
ولقد كف الله المسلمين عن القتال في مكة؛ وفي أول العهد بالهجرة إلى المدينة.. وقيل للمسلمين: {كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}.. ثم أذن لهم فيه، فقيل لهم: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.. ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم فقيل لهم: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}.. ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فقيل لهم: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة}.. وقيل لهم: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.. فكان القتال- كما يقول الإمام ابن القيم: محرمًا، ثم مأذونًا به، ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين.
إن جدية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد؛ وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه؛ وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام، وعلى مدى طويل من تاريخه.. إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي!
ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي؛ ثم يظنه شأنًا عارضًا مقيدًا بملابسات تذهب وتجيء؛ ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود؟!
لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض، لدفع الفساد عن الأرض: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا}.. وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة. الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض. وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط؛ وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن الإنسان في الأرض ذلك السلطان الغاصب.. حال دائمة لا يكف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله.
إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة. كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة. والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة.. هذا هدف أولي لابد منه.. ولكنه ليس الهدف الأخير.. إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق؛ ويؤمن قاعدة الانطلاق.. الانطلاق لتحرير الإنسان، ولإزالة العقبات التي تمنع الإنسان ذاته من الانطلاق!
وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم. لأنه كان مكفولًا للدعوة في مكة حرية البلاغ.. كان صاحبها صلى الله عليه وسلم يملك بحماية سيوف بني هاشم، أن يصدع بالدعوة؛ ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب؛ ويواجه بها الأفراد.. لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة، أو تمنع الأفراد من سماعه! فلا ضرورة- في هذه المرحلة- لاستخدام القوة. وذلك إلى أسباب أخرى لعلها كانت قائمة في هذه المرحلة. وقد لخصناها عند تفسير قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} من سورة النساء. ولا نرى بأسًا في إثبات بعض هذا التلخيص هنا مرة أخرى: ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به. ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه، فلا يندفع لأول مؤثر- كما هي طبيعته- ولا يهتاج لأول مهيج، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته. وتربيته على أن يتبع مجتمعًا منظمًا له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به- مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء المجتمع المسلم الخاضع لقيادة موجهة، المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي!
وربما كان ذلك أيضًا، لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثرًا وأنفذ، في مثل بيئة قريش، ذات العنجهية والشرف؛ والتي قد يدفعها القتال معها- في مثل هذه المرحلة- إلى زيادة العناد، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حرب داحس والغبراء، وحرب البسوس، أعوامًا طويلة، تفانت فيها قبائل برمتها. وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام. فلا تهدأ بعد ذلك أبدًا. ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية، وهو في مبدئه، فلا تذكر أبدًا!
وربما كان ذلك أيضًا، اجتنابًا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت. فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم. إنما كان ذلك موكولًا إلى أولياء كل فرد، يعذبونه ويفتنونه ويؤدبونه! ومعنى الإذن بالقتال- في مثل هذه البيئة- أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت.. ثم يقال: هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمدًا يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي.. في كل بيت وفي كل محلة؟
وربما كان ذلك أيضًا لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته.. ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟!
وربما كان ذلك أيضًا، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعًا على كرام الناس فيهم.. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة- في هذه البيئة- فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر- وهو رجل كريم- يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عارًا على العرب! وعُرض عليه جواره وحمايته.. وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب، بعدما طال عليهم الجوع واشتدت المحنة.. بينما في بيئة أخرى من بيئات الحضارة القديمة التي مردت على الذل، قد يكون السكوت على الأذى مدعاة للهزء والسخرية والاحتقار من البيئة، وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!
وربما كان ذلك، أيضًا، لقلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة، أو بلغت أخبارها متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة- حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم- ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة، ولم يقم في الأرض للإسلام نظام، ولا وجد له كيان واقعي.. وهو دين جاء ليكون منهاج حياة، وليكون نظامًا واقعيًا عمليًا للحياة... إلخ.
فأما في المدينة- في أول العهد بالهجرة- فقد كانت المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود من أهلها ومن بقي على الشرك من العرب فيها وفيما حولها، ملابسة تقتضيها طبيعة المرحلة كذلك..
أولًا: لأن هناك مجالًا للتبليغ والبيان، لا تقف له سلطة سياسية تمنعه وتحول بين الناس وبينه، فقد اعترف الجميع بالدولة المسلمة الجديدة؛ وبقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصريف شؤونها السياسية. فنصت المعاهدة على ألا يعقد أحد منهم صلحًا ولا يثير حربًا، ولا ينشئ علاقة خارجية إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان واضحًا أن السلطة الحقيقية في المدينة في يد القيادة المسلمة. فالمجال أمام الدعوة مفتوح، والتخلية بين الناس وحرية الاعتقاد قائمة.
ثانيًا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد التفرغ- في هذه المرحلة- لقريش؛ التي تقوم معارضتها لهذا الدين حجر عثرة في وجه القبائل الأخرى؛ الواقفة في حالة انتظار لما ينتهي إليه الأمر بين قريش وبعض بنيها! لذلك بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإرسال السرايا وكان أول لواء عقده لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة.
ثم توالت هذه السرايا، على رأس تسعة أشهر. ثم على رأس ثلاثة عشر شهرًا. ثم على رأس ستة عشر شهرًا. ثم كانت سرية عبدالله بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهرًا. وهي أول غزاة وقع فيها قتل وقتال. وكان ذلك في الشهر الحرام. والتي نزلت فيها آيات البقرة: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}.